سورة الأنعام - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}
{مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات قال ابن عباس: معروشات ما انبسط على وجه الأرض وأنتثر ممّا يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها، وغير معروشات ما كان على ساق مثل النخيل وسائر الأشجار وما كان على نسق، ومثل البروج، وقال الضحاك: معروشات وغير معروشات الكرم خاصة منها ما عرش ومنها ما لم يعرش.
وروي عن ابن عباس إيضاً أنَّ المعروشات ما عرش الناس، وغير معروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار.
يدلّ عليه قراءة علي {معروشات وغير معروشات} بالغين والسين. {والنخل} يعني وأنشأ {والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} ثمره وطعمه الحامض والمرّ والحلو والجيّد والرديء وارتفع معنى الأكل ومختلفاً نعته إلاّ أنّه لمّا تقدّم النعت على الاسم وولي منصوباً نصب، كما تقول: عندي طبّاخاً غلام وأنشد:
الشر منتشر لقاك من مرض *** والصالحات عليها مغلقاً باب
{والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً} في المنظر {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف، إحداهما حلوة والأخرى حامضة وقد مرّ القول فيه {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} ولا تحرّموه كفعل أهل الجاهلية {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قرأ أهل مكّة والمدينة والكوفة حِصاده بكسر الحاء والباقون بالفتح، وهما واحدة كالجَداد والجِداد والصَرام والصِرام واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد ومحمد ابن الحنفية وسعيد بن المسيب والضحاك وابن زيد: هي الزكاة المفروضة العُشْر ونصف العشر.
وقال عليّ بن الحسين وعطاء وحمّاد والحكم: هو حق في المال سوى الزكاة.
قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألف لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته وذرّيته فاطرح لهم منه، وإذا كدسته ونقيته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته.
وقال إبراهيم: هو الضغث، قال الربيع: لقاط السنبل. قال مجاهد: كانوا يعلّقون العذق عند الصرام فيأكل منه الضيف ومن مرَّ به.
قال زيد بن الأصم: كان أهل الجاهليّة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيُعلّقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه ويأخذه.
وقال سعيد بن جبير وعطيّة: كان هذا قبل الزكاة فلمّا فرض الزكاة نسخ هذا.
وقال سفيان والسدي: سألت عن هذه الآية فقال: نسخها العشر ونصف العشر، قلت: ممّن؟ فقال: من العلماء مقسّم عن ابن عباس: نسخت الزكاة كلّ صدقة في القرآن.
{وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} كان رجال ينفقونها بالحرام فيقول الرجل لا أمنع سائلا حتّى أمسي فعمد ثابت بن قيس بن شمّاس إلى خمس مائة نخلة فجذها ثمّ قسّمها في يوم واحدولم يترك لأهله شيّئاً فنزلت {ولا تُسرفوا} أي لا تعطوا كلّه، وقال السدي: لا تُسرفوا لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء، وقال سعيد بن المسيّب: لا تمنعوا الصدقة، وقال يمان بن رئاب: ولا تُبذّروا تبذيراً، مجاهد وعطية العوفي: ولا تتركوا الأصنام في الحرث والأنعام.
وقال الزهري: فوقعوا في المعصية، وقال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً أو مدّاً في معصية الله كان مسرفاً، وفي هذا المعنى قيل لحاتم الطائي: لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير.
وقال محمد بن كعب: السرف أن لا يعطي في حق، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الإسراف ما لا يقدر على ردّه إلى الصلاح، والفساد ما يقدر على ردّه إلى الصلاح.
قال النضر بن شميل: الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل. قال الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية *** مافي عطائهم منٌ ولا سرف
قال إياس بن معاوية: ما تجاوز أمر الله فهو سرف، وروى ابن وهب عن ابن زيد قال: الخطاب للمساكين يقول: لا تأخذوا فوق حقّكم.
{وَمِنَ الأنعام} يعني أنشأ من الأنعام {حَمُولَةً} بمعنى كلّ ما محمّل عليها ويركب مثل كبار الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، سمّيت بذلك لأنّها تحمل أثقالهم، قال عنترة:
ما دعاني إلا حمولة أهلها *** وسط الديار تسف حب الخمخم
والحمولة الأحمال.
وقال أهل اللغة: الفعولة بفتح الفاء إذا كانت يعني الفاعل استوى فيه المذكّر والمؤنّث نحو قولك: رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف، ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا، وإذا كانت بمعنى المفعول فرّق بين الذكر والأُنثى بالهاء كالخلويّة والزكويّة {وَفَرْشاً} والفرش ما يؤكل ويجلب ولا يحمل عليه مثل الغنم والفصلان والعجاجيل، سمّيت فرشاً للطافة أجسامها وقربها من الفرش. هي الأرض المستوية، وأصل الفرش الخفة واللطافة ومنه فراشة العقل وفراش العظام، والفرش أيضاً نبت ملتصق بالأرض تأكله الإبل قال الراجز:
كمفشر الناب تلوك الفرشا ***
والفرش: صغار الأولاد من الأنعام.
وقال الراجز:
أورثني حمولة وفرشاً *** أمشها في كلّ يوم مشاً
{كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} ما حرم الحرث الأنعام {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ثمّ بيّن الحمولة والفرش فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} نصبها على البدل من الحمولة بالفرض يعني واحد من الأنعام ثمانية أزواج أي أصناف {مَّنَ الضأن اثنين} فالذكر زوج والأُنثى زوج والضأن والنعاج جمعه، واحده: ضائن، والأُنثى: ضائنة، والجمع: ضوائن.
قرأ الحسن وطلحة بن مصرف: الضأن مفتوحة الهمزة، والباقون ساكنة الهمزة، تميم بهمزة وسائر لا بهمزة {وَمِنَ المعز اثنين} والمعز المعزى لا واحد له من لفظه، وأمّا الماعز فجمعه معيزة وجمع الماعزة مواعز، وقرأ أهل المدينة والكوفة: من المعز ساكنة العين والباقون بالفتح، وفي مصحف أُبيّ: من المعزى، وقرأ أبان بن عثمان: من الضأن اثنان ومن المعز اثنين، قل يا محمد: {ءَآلذَّكَرَيْنِ} حرّم الله عليكم؟ ذكر الضأن {حَرَّمَ أَمِ الأنثيين} والمعز؟ أم أُنثييهما والنصب قوله: {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين} منهما {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين}.
وذلك أنّهم كانوا يقولون هذه أنعام وحرث حجر، وقالوا: أمّا في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا، فحرّموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. «فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم يومئذ مالك بن عوف وأبو النضر النصري فقال: يا محمد رأينا أنّك تحرّم ما كان أباؤنا يفعلونه؟
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم قد حرّمتم أصنافاً من النعم على [غير........] إن الله خلق هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين حرمت ذكران هذه النعم على نسائكم دون رجالكم؟
فإن زعمتم أن تحريمه من أجل الذكران وجب أن تحرموا كل ذكر، لأن للذكر فيها حظاً، وإن زعمتم أنّ تحريمه من جهة الأنثى وجب أن تحرموا كل انثى لأن للأناث فيها حظّاً، وإن زعمتم أن تحريمه لإجتماع الذكر والأنثى فيه وما اشتمل الرحم عليه وجب أن تحرّموا الذكر والأنثى والحي والميّت، لأنَّه لا يكون ولد إلاّ من ذكر وأنثى ولا يشتمل الرحم إلاّ على ذكر وأنثى، فَلِم تحرمون بعضاً وتحّلون بعضاً؟ فسكت. فلما لزمته الحجّة أخذ بالإفتراء على الله فقال: كذا أمرنا الله فقال الله تعالى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} حضوراً {إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا}».
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}.


{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}
ثمّ بيّن المحرمات فقال: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} أي شيئاً محرّماً {على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} آكل يأكله. وقرأ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: يطعمه مثقلة بالطاء أراد يتطعّمه فأدغم، وقرأت عائشة على طاعم طعمه {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} مهراقاً سائلاً. قال عمران بن جرير: سألت أبا مجلز عمّا يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدر تعلوها حمرة الدم. قال: لا بأس به إنّما نهى الله سبحانه عن الدم المسفوح.
وقال إبراهيم: لا بأس الدم في عروق أو مخ إلاّ المسفوح الذي تعمّد ذلك، قال عكرمة: لولا هذه الآية لأتّبع المسلمون من العروق ما تتبّع اليهود {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} خبيث {أَوْ فِسْقاً} معصية {أُهِلَّ} ذبُح {لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{وَعَلَى الذين هَادُواْ} يعني اليهود {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}، وهو مالم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير. مثل الإبل والنعّام والأوزة والبط.
قال ابن زيد: هو الإبل فقط. وقال القتيبي: هو كلّ ذي مخلب من الطيور وكل ذي حافر من الدواب، وقد حكاه عن بعض المفسّرين، وقيل: سمّي الحافر ظفراً على الاستعارة وأنشد قول طرفة:
فما رقد الولدان حتّى رأيته *** على البكر يمريه بساق وحافر
فجعل الحافر موضع القدم.
وقرأ الحسن كل ذي ظفر مكسورة الظاء مسكنة الفاء. وقرأ أبو سماك ظِفِر بكسر الظاء والفاء وهي لغة.
{وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ} يعني الشروب وشحم الكليتين {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} أي ما علق بالظهر والجانب إلاّ منْ داخل بطونها {أَوِ الحوايآ} يعني الماعز {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} مثل لحم الإلية {ذلك} التحريم {جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} بظلمهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل {وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} في أخبارنا عن هؤلاء اليهود وعمّا حرّمنا عليهم من اللحوم والشحوم.
{سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} لمّا الزمنا بينهم الحجّة وتبيّنوا وتيقنوا باطل ما كانوا عليه {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا} ما حرّمنا من التغاير والسوايب وغير ذلك لأنَّه قادر على أن يحمل بيننا وبين ذلك حتّى لا نفعله ولكنّه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأصنام وتحريم الحرث والأنعام وأراد منّا وأمرنا به فلم يحل بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيباً لهم وردّاً عليهم {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم} ولو كان كذلك خيراً من الله تعالى عن مَنْ كذّبهم في قولهم {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} لقال كذلك {كذّب الذين من قبلهم} بتخفيف الذال وكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب.
وقال الحسن بن الفضل: لمّا خبّروا بهذه المقالة تعظيماً وإجلالا لله سبحانه وتعالى وصفة منهم به لمّا عابهم ذلك، لأن الله قال: {وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ} وقال سبحانه: {مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} وقال: {فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} والمؤمنون يقولون هذا ولكنّهم قالوا ذلك تكذيباً وتخرصاً وبدلاً من غير معرفة بالله تعالى وبما يقولون نظيره قوله: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، قال الله تعالى {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20] بقولهم هذا من غير علم بيّنهم بآية {وَالْمُؤْمِنُونَ} وبقوله و{عِلْمٍ} منهم بالله عزّ وجلّ ثمّ قال: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} من حظ وحجّة على ما يقولون من غير علم ويقين {وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} تكذّبون {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} التامة الكافية على خلقه {فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا} أي احضروهم وأتوا بهم فقالوا: نحن نشهد، فقال الله تعالى: {فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} إلى قوله: {يَعْدِلُونَ} يشركون.


{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}
ثمّ قال قل يامحمد {تَعَالَوْاْ أَتْلُ} أقرأ {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حقّاً يقينا كما أوحى إليّ ربّي وأمرني به لاظنّاً ولا تكذيباً كما يزعمون {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} اختلفوا في محل أن فقال بعضهم: محلّه نصب، ثمّ اختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه: حرّم أن تشركوا ولا صلة كقولهم: {ما منعك ألا تسجد}.
وقيل: إنّك ألاّ تشركوا، وقيل: أوحى ألا تشركوا، وقيل: ما بدل من ما حرّم، وقيل: الكلام عند قوله: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ثمّ قال: عليكم أن لا تشركوا على الكفر، وقال بعضهم: موضع من معناه: وهو أن لا تشركوا جهراً بكفركم، وأما بعده فيجوز أن يكون في محل النصب عطفاً على قوله: {أن لا تشركوا} وأن [.......] لأنّه يجوز أن يكون جزم على الأقوى كقوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}.
{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} عطف بالنهي على الخبر قال الشاعر:
حج وأوصي بسليمى إلا عبدا *** أن لاترى ولا تكلم أحداً
ولا يزال شرابها مبردا... {وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ولاتئدوا بناتكم خشية العيش فإني أرزقكم وإياهم والإملاق الفقر ونفاد الزاد.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني علانية {وَمَا بَطَنَ} يعني السرّ قال المفسّرون: كانوا في الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السرّ فحرّم الله تعالى الزنا في العلانيّة والسر وقال الضحاك: ما ظهر الخمر وما بطن {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله} نهى وهي نفس مؤمن أو معاهد {إِلاَّ بالحق} يعني بما أباح قبلها وهي الارتداد والقصاص والرجم.
وروى مطر الوراق عن نافع بن عمر عن عثمان رضي الله عنه أشرف على أصحابه وقال: علام يقتلونني فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرئ مُسلم إلاّ بإحدى ثلاث: رجل زنا بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عامداً فعليه القود، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحداً فاقيد نفسي، ولا ارتدت منذ أسلمت، إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله».
{ذلكم} النبيّ الذي ذكرت {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} يعني بما فيه صلاحه وتثميره، وقال مجاهد: هو التجارة فيه، وقال الضحاك: أموال يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئاً.
وقال ابن زيد: وأن يأكل بالمعروف إن افتقر، وإن استغنى لم يأكل، وقال الشعبي: مَنْ خالط مال اليتيم حتّى يفصل عليه فليخالطه، ومَنْ خالطه ليأكل منه وليدعه حتّى يبلغ أشده.
وقال يحيى بن يعمر: بلوغ الحلم، وقال الشعبي: الأشد الحلم حيث يكتب له الحسنات وعليه السيئات، وقال أبو العاليّة: حتّى يعقل ويجتمع قوّته.
وقال الكلبي: الأشد مابين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة. وقال السدّي: هو ثلاثون سنة ثمّ جاء بعدها حتّى بلغوا النكاح.
والأشد جمع شدّ، مثل قدّ وأقدّ، وهو استحكام قوماً لفتى وشبابه وسنه، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه، يقال: أتيته شدّ النهار ومد النهار وقال الفضل بن محمد في شد بيت عنترة:
عهدي به شدّ النهار كأنّما *** خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال آخر:
تطيف به شد النهار ضعينة *** طويلة أنقاء اليدين سحوق
وليس بلوغ الأشد ممّايدع قرب ماله بغير الأحسن وقد تمّ الكلام.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} على الأبد {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فادفعوا إليه ماله إن كان رشيداً {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} بالعدل {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن، وقال أهل المعاني: معناه: إلاّ يسعها ويحلّ لها ولا يخرج عليه ولا يضيق عنه وذلك أنّ لله تعالى من عباده أنّ كثيراً منهم ضيق نفسه عن أن يطيّب لغيره بما لا يجب عليها له فأمر المعطي بإيفاء الحق ربّه الذي هو له ويكلّفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها، وأمر صاحب الحق بأخذ حقّه ولم يكلفه الرضا بأقل منه لمّا فيه في النقصان عليه من ضيق نفسه، فلم يكلّف نفساً منهما إلاّ ما لا حرج فيه ولا يضيق عليه.
قال ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم فقد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} أي فاصدقوا في الحكم والشهادة {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} محذوف الاسم يعني ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قربة {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يتّعظون.
قال ابن عباس: هذا الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب وهنَّ محرّمات على بني آدم كلّهم وهنّ أُمّ الكتاب مَنْ عمل بهن دخل الجنّة ومَنْ تركهن دخل النار.
قال كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إنَّ هذا لأوّل شيء في التوراة {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ * قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآيات.
وقال الربيع بن خيثم لأصحابه: ألا أقرأ عليكم صحيفة عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم لم يُفك فقرأ هذه الآية {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ} {وَأَنَّ هذا} يعني وصّاكم به في هاتين الآيتين {صِرَاطِي} طريقي وديني {مُسْتَقِيماً} مستوياً قويماً {فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} يعني الطرق المختلفة التي عداها مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات {فَتَفَرَّقَ} فيمتدّ وتخالف وتشتت {بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} عن طريقه ودين النبيّ الذي ارتضى وبها وصّى {ذلكم} الذي ذكرت {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} يعني ثمّ قل يا محمد لهم آتينا موسى الكتاب، لأنّ موسى أوتي الكتاب قبل محمد عليهما الصلاة والسلام.
وقيل: ثمّ بمعنى الواو لأنّهما حرفا عطف قال الشاعر:
قل لمن ساد ثمّ ساد أبوه *** ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه
{تَمَاماً} نصب على القطع، وقيل: على التفسير {عَلَى الذي أَحْسَنَ} قال بعضهم: معناه تماماً على المحسنين. ويكون {الذي} بمعنى من وتقديره على الذين أحسنوا، لفظه واحد ومعناه جمع كما تقول: أُوصي بمالي للذي غزا وحجَّ يريد الغازين والحاجين.
وقال الشاعر:
شبّوا عليَّ المجد وشابوا واكتهل ***
يريد: واكتهلوا.
يدلّ عليه قراءة عبد الله بن مسعود {على الذين أحسنوا}.
وقال أبو عبيد: معناه على كل مَنْ أحسن، ومعنى هذا القول أتممنا طلب موسى بهذا الكتاب، على المحسنين يعني أظهرنا فضله عليهم، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون. وقيل: معناه: ثمّ آتينا موسى الكتاب متماً للمحسنين يعني تتميماً منّا للأنبياء والمؤمنين الكتب {عَلَى} بمعنى اللام كما تقول أتم الله عليه فأتم له. قال الشاعر:
رعته أشهراً وخلا عليها *** فطار التي فيها واستعاراً
أراد: وخلا لها.
وقيل: الذي بمعنى ما، يعني آتينا موسى الكتاب تماماً على ما أحسن موسى من العلم والحكمة أي زيادة على ذلك.
وقال عبد الله بن بريدة: معناه تماماً مِنّي على مَنّي وإحساني إلى موسى، وقال ابن زيد: معناه تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم، وقال الحسن: فمنهم المحسن ومنهم المسيء فنزل الكتاب تماماً على المحسنين، وقرأ يحيى بن يعمر: على الذي أحسن، بالرفع أي على {الذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً} بياناً {لِّكُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه من شرائع الدين {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} هذا يعني وهذا القرآن {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه} واعملوا بما فيه {واتقوا} وأطيعوا {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فلا تعذبون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8